مقالات

بنات وآباء

د: فاطمة بنت محمد العبودي
26/6/1433هـ

كتب الكثيرون عن جوانب عديدة من حياة والدي الشيخ محمد بن ناصر العبودي أمد الله في عمرة للمزيد من العمل الصالح، فوالدي عالم موسوعي كتب التاريخ والجغرافيا واللغة والأدب وفي رحلات كتب ما لم يكتب غيره, وعندما يكتب عن دولة ما فهو يكتب عن أغلب مدنها، ولا يماثله أحد في ذلك من العرب، فمن البرازيل علي سبيل المثال كتب 14 كتاباً، وكتب في المعاجم ما لم يكتبه غيره، دون فيها مخزونه العلمي وخبراته ومعارفه حول جميع جوانب الحياة في منطقة نجد، وأضاف إليه ما كتب عنها في المراجع من شواهد ومعلومات، وهو بهذا يطبق أحدث الوسائل في الإدارة وهو ( إدارة المعرفة) التي تدعو إلى تدوين المعارف والخبرات النشطة وهي الموجودة في عقول البشر، ليستفيد منها الغير، فالمشاركة وتبادل المعلومات من صفات عصر المعلومات الحالي،يطبقه والدي منذ صغره وقد استشرف المستقبل كعادته .
وعند الحديث عن إنتاج والدي الفكري لابد من كلمة ثناء وتقدير للدكتور محمد المشوح،عضو جمعية الناشرين السعودية وصاحب دار نشر التلوثية التي أنطلق اسمها من ثلوثيتة الثقافية المشهورة، فقد كان فربياً من والدي وبدأت علاقته بالوالد عندما قدم برنامج في إذاعة القران الكريم يستعرض رحلات والدي ويحاوره فيها وما زال البرنامج مستمراً، ثم بدأ بنشر مؤلفاته التي كان الوالد بحكم مشاغله وارتباطاته مشغولاً عنها وظل بعضها يحتاج إلى متابعة في النشر والتوزيع فكان لجهوده دوراً كبير أفي انتشارها .
والهدف من مشاركتي في هذه الندوة تسليط الضوء علي الجانب الأسري في حياة والدي , ومالا يعرفه الناس عنه، وأبدأ حديثي بنبذة بسيطة عن سماته الشخصية التي انعكست علي سلوكه ومن خلالها تعلمنا الكثير منه، وكثير مما سأذكر من شواهد حدثت في المدينة المنورة حيث قضيت فيها 14عاما من طفولتي أسس فيها والدي الجامعة الإسلامية حيث عمل أميناً عاماً لها .
سماته الشخصية :
من سمات والدي الشخصية النزاهة، فقد تقلد حفظه الله مناصب قيادية عده كما تبين من سيرته الذاتية، ولم يسبق أن أستغل منصبة لمصلحة خاصة أو استفاد مما يتوفر في عمله، حتى قلم الرصاص، الذي نبهني مرة وأنا صغيرة وقد رافقته إلى الجامعة الإسلامية عصر أحد الأيام، إلى ضرورة إعادة القلم لأنه ملك الدولة لا حق لنا، فرسم بذلك الموقف خط حياة لي انتهجته فيما بعد بعملي، وأذكر مرة أن وجدت ريالات وأنا بلعب في الشارع فأخذتها وأخبرت أهلي عنها، فأمر والدي أن أعود وأضعها في نفس المكان الذي وجدتها فيه، ففعلت، فجاءت عنزة أكلت بعضها أمام عيني وكانت الغنم تسرح في شوارع المدينة المنورة تلك الأيام، وبقيت تلك الصورة في خيالي، تذكرني دوما بأن لا أخذ ما ليس من حقي مهما كانت المبررات، وقد كتبت أختي الأدبية الدكتورة شريفة قصة قصيرة، حول هذا، فقد أضعت ساعة أهداني إياها والدي بعد قدومه من أفريقيا في أول يوم لبستها فيه لسعتها علي يدي النحيلة وأنا في الصف الأول الابتدائي وعدت لأبحث عنها فلم أجدها ن فقالت لو كان لكل شخص صوت أبوي آمر كوالدي لوجدت أختي سعاتها.
والدي مثال للانتظام والالتزام ودقة المواعيد، فإذا أعطي أحداً موعداً للخروج معه، تجد يقف خارج المنزل عند الباب في الموعد المحدد، حتى يحضر من واعده .. وبرنامجه اليومي محدد يستيقظ وقت مبكر ليقرأ ويكتب ويشرب قهوة الصباح، تعدها له والداتي بعد صلاة الفجر، يذهب إلى عملة في وقت مبكر ونضبط سعاتنا علي موعد عودته، لنتغدي فور وصولة ، والعشاء وقت أخبار التليفزيون الساعة التاسعة والنصف، هذا طبعا قبل الفضائيات، ويحرص علي اجتماع العائلة علي الطعام ولا يبدأ بالأكل حتى يتأكد من حضور الجميع سائلاً عنهم فرداً فرداً، واستمر في ذلك حتى اجتماعنا الأسري في بيت الوالد أسبوعياً .
يخطط والدي لحياته، ولا يترك الأمور تسير عبثاً، ويبادر إلى عمل ما يريد دون تسويف، وبالنسبة لنا كعائلة أنعكس تنظيم والدي إيجاباً علي حياتنا ، ولنا طقوس جميلة في العيدين وفي رمضان فكان عيد الأضحي في طفولتنا إثارة ومتعه ، تبدأ بمراقبة الخروف ومداعبته عند إحضاره قبل العيد بيومين أو ثلاثة، كما أن لذبح الخروف طقوس يشهدها الصغار ليستمر تطبيق هذه الشعيرة العظيمة جيلاً بعد جيل، ولا يقل احتفال الشواء إثارة عن احتفال الذبح، فقيام كل طفل بشواء نصيبه من الحم أو الكبدة وما يرافقها من مرح وتسابق علي مكان الشوي، ما يجعل لطعم اللحم مذاقاً لا يعادله طهي أمهر الطهاة .
ذلك المخزون من الذكريات الجميلة الذي أحمله عن عيد الأضحى المبارك بعد تكراره أمامي طوال سنوات الطفولة ثم المراهقة، يجعلني أتمني أن يحظي جميع الأطفال بمثله، لكن مع الأسف ليس كل أطفالنا تتاح لهم فرصة وجود الأب أثناء العيد وعدم ارتباطه بعمل، كما أن طبيعة والدي حفظه الله ونظرته الإيجابية إلى الأمور التي تضفي الجمال علي كل شيء ودعوتنا إلى الاستماع بما سخر الله لنا من نعيم، مما يكسب الأشياء والمواقف طعماً خاصاً يمنح السعاة من أشياء بسيطة، وليس كل الآباء لديهم هذه الميزة .
ومن حرص والدي علي التخطيط كنا نعلم متى سنسافر، وفي أي يوم وفي أي ساعة قبل فترة طويلة، ومن الذكريات الجميلة سفرنا بالسيارة سنوياً في يوم الرابع والعشرين من رمضان من المدينة المنورة لقضاء بقية العشرة الأواخر في مكة المكرمة ثم نغادر إلى جدة بعد صلاة العيد، ونبقي يوماً عند شاطئ البحر نسبح ونأكل السمك المشوي، والسفر مع والدي متعه فهو يقص القصص ويحدثنا عن أخبار الأولين من أهل نجد ومن العصور السابقة، فنصل إلى مبتغانا دون أن نحس بطول الرحلة مع الاستفادة والمتعة التي ننالها .
كما أن أغراضه مرتبة، لكل شيء مكانه، وتنظيم مكتبته علي ضخامتها جعل وصوله إلى أي كتاب يريد، بسهولة ويسر، ومكتبه في المنزل منظم لا تري فوقه إلا أدوات الكتابة علي الرغم من أنه قد يعمل علي تأليف عدة كتب في نفس الوقت إلا أدوات الكتابة كل كتاب منها يحتاج إلى مراجع مختلفة لكنه يقوم بحفظ مسودات كتبه في ملفات منظمة مرقمة يحفظها في دواليب في غرفة مكتبه، فإذا آنس في نفسه رغبة للكتابة في أحدها أو طلع علي معلومة من كتاب تستحق الإضافة إلية بادر بسحب الملف ودون فيه ما وجد ثم أعاده إلى مكانه وأعاده الكتاب إلى مكانه في المكتبة .
ومن التزامه محافظته علي أغراض الشخصية فتبقي معه لسنوات فإذا أراد السفر بالطائرة أدخل السيارة إلى مرآب المنزل وغطاها بغطائها الخاص، وقلمه الباركر يحمل آثار أسنان أغلبنا وهكذا يحافظ علي جميع أشيائه .
ومن صفاته حفظه الله، التواضع، علي الرغم من قوة شخصيته وهيبته وقد كتب الكثيرون عن تواضع والدي، وما أذكره أنه يحمد الله دائماً ويردد أن ما هو عليه إن هو إلا فضل من دون الله وليس من عمله، وهو يلاطف المستخدمين ويحثنا علي حسن معاملتهم .
كما أن والدي مضياف كريم، لا يمر أسبوع، إن لم أقل يوماً، دون أن يستقبل ضيوفاً، غداء أو عشاء وقد يحدث أن يستضيف في كليهما، تعينه علي ذلك والدتي جزاها الله خيراً، التي تعمل دون تذمر وحتى قبل وجود الخادمات في المنازل، فكنا نساعدها ما استطعنا .
صادق، لا أذكر يوما أن كذب علينا والدي وإن مزحاً، فكان بذلك لنا نعم القدوة .
شاكر للنعم : ما تدعو إلية كتب تطوير الذات حاليا، هو ما يطبقه والدي طوال حياته فهو دائما يري النصف الممتلئ من الكأس، كما يقولون، بل قد يشعرك أحيانا أن ما لديك هو الأفضل بمعني أن تري الحكمة والخير في عدم امتلاء الكأس، صبغ هذا السلوك حياته كلها وانعكس علينا فتراه راضياً بما قسم الله له، سعيد به، يحدث من حوله بجمال الطبيعة وطعم الفواكه وحسن موقع المنزل وغيرها ويردد فضل الله عليه، وفي كل موقف.
التربية :
عي الرغم من مشاغل والدي وأسفاره فريبا منا يلاعبنا ويداعبنا ويقص علينا القصص وينادينا بأحب الأسماء إلينا عندما كنا صغاراً، وأذكر أن من يفتح الباب له عند عودته من العمل يحمله ويصعد به إلى الدور الثالث، فكنا نتسابق لفتح الباب له، أما الرحلات إلى البر فكانت دائمة، سواء في المدينة المنورة في وادي العاقول أو نتسلق جبل الهناء، كما أسميناه، في طريق تبوك، ومتعتنا التدحرج علي الكثبان الرملية في بر بريدة، وفي الطائف حين كان موظفوا الدولة يقضون الصيف فيه، ذكريات لا تنسي حيث رحلات الهدي حتى يهدأ المطر وهو يهزج ونحن نردد معه \” دقي علي السمانة….. دقي ……….علي السمانة \”
وعلي الرغم من مداعبة والدي لنا إلا أنه لم يكن يدللنا بما يفسدنا بل كان مربياً حازماً ذو هيبة، تكفينا النظرة منه لنعود عن تصرف سلكناه، فكان النظام في المنزل عدم السهر، وبعد أخبار التاسعة والنصف نشاهد المسلسل اليومي ثم ننام وإذا حدث وأن توجه من المكتبة إلى غرفته لينام ورأي أحدنا، لا يقول شيئاً، يلتفت إلية فقط فيقوم مسرعا، ومن حسن تربيته لنا إذا أنب أحدنا وضحك الآخر عليه يناله من العقاب أكثر من المخطئ، ولا يتهاون أبداً في حق الجار أو احترام الكبير . وكثيرا ما يسألنا الناس عن انشغال والدي والعناية والتوجية، فإذا عاد والدي وجدها أفضل مما ترك فتطمئن نفسه ويتفرغ لعمله ورحلاته في خدمة الإسلام والمسلمين مطمئنا أننا في أيد أمينه فجزاها الله عنا خير الجزاء .
ومن أساليب والدي في التربية تعويدنا علي استقلال بالرأي، فلا يقبل منا رأيا محايداً عندما يخيرنا بين أمرين، وعندما عرض الكتابة في الصحافة أيد ذلك بقوله \” هي فرصة سانحة لتبدو رائيك فلا تفوتيها \”
غرس فينا والدي حب العلم بالقدوة أولاً، ففي كل منزل نسكنه يوجد مكتبة عامرة منظمة، يقضي فيها الكثير من وقته، ويحثنا علي تكوين مكتباتنا الخاصة، وألا نستصغر كتاباً لنبدأ به تكوين مكتبتنا .
كما كان تشجيعنا علي القراءة والكتابة وحثنا علي التفوق من أهم عوامل نجاحنا مع توفيق الله، فمكتبة المنزل عامرة وهدايا النجاح غالباً ما تكون قصصاً وكتباً، وخير جائزة معنوية ننالها سعادة أبي بتفوقنا، وحث والدي علي طلب العلم يمتد ليشمل الأسرة كلها فيسأل أبناء وبنات أخواته وأخته عن دراستهم ودراسة أولادهم ويسعد لتفوقهم .
ومن حرصه علي أن نكمل تعليمنا أن والدته رحمها الله أصرت عليه وإخوته أن تبقي البنات بعد دراسة المرحلة الابتدائية في المنزل حرصاً عليهن وهي نظرة الكثير من أهل نجد في ذلك الزمان معتقدين أن العلم يفسد الفتاة، وحلفت ألا تزورنا في المدينة المنورة إن أكلمنا دراستنا، فأطاعها أعمامي ، أما والدي فقد حرص علي أن نكمل تعليمنا فكان أن صامت تكفيرا عن حلفها وعادت تزورنا وبقيت بنات أعمامي دون دراسة بعد الابتدائية .
ولا انسي سعادة والدي الغامرة بعوده أختي ألكبري شريفة لإكمال دراستها العليا في الأدب الإنجليزي بعد أن كبر أولادها حتى حصلت علي درجة الدكتوراة . وما يزال يتابع تخصصات أولادنا ويسأل عن مستوي دراستهم ويحثهم علي التفوق ومبدأ غرس حب التفوق في الأبناء من أولويات التربية التي ينادي بها المربون لكي يكون للطفل هدف يسعي لتحقيقه .
وبالنسبة لي فقد كان حصولي علي درجة الدكتوراة حلماً حرصت علي تحقيقه بعد أن غرسه في والدي منذ الطفولة، وأذكر عندما أفتتح المجال لدراسة الدكتوراة في كليتنا، سألته رأيه فقد كنت مترددة بسبب انتقاص بعض الجامعات في المنطقة للدراسات العليا في كليات البنات والنظرة الدونية لها، وكنت أفكر بالدراسة بالخارج ولو عن بعد أو يسمي الحضور الجزئي في العطلات، لكنة قال لي استثمري افتتاح برنامج الدكتوراة في كليتكم ثم أثبتي مستواك العلمي عن طريق الأبحاث مستقبلاً، فكان أن فعلت، عندما نشر أول بحث لي بعد الدكتوراة في أول عدد من مجلة أبحاث تلك الجامعة التي تنتقص كليات البنات، شد والدي علي يدي مهنئاً وكانت سعادته بي غامرة .
كما أن كان والدي يحثنا علي كتابة مذكراتنا وتدوين جميع ما يمر بنا تقوية لأسلوبنا وقدرتنا علي التعبير، وأذكر مرة أن دعاني إلى كتابة مذكراتي وكنا في يوم الأجازة الصيفية، فقلت له ماذا أكتب، فالأيام متشابهة وما يحدث اليوم حدث نفسه الأمس وسيحدث ذلك غداً علي نفس الوتيرة، مشير بذلك إلى مللي من الأجازة الصيفية، ذلك كان في عام 1395هـ أي قبل وسائل الترفية الحالية ، فقال لي ألست تقرأين فقلت نعم، فقال أكتبي عن الكتاب الذي تقرأين، ووجهة نظرك حوله، وأذكر وقتها أنني كنت أقرأ كتاباً عن حياة غاندي فكتبت ذلك ولا زلت أحتفظ بتلك المذكرات .
وفي مجال التأليف كان يسألنا عن كتبنا وبحثنا علي إكمالها وأن لا شي يضاهي الهمة وعدم الكسل، وكثيرا ما يردد علينا قوله \” عند الصباح يحمد القوم السري \”
كان والدي حفظه الله وما يزال، عقلية متفتحة واسع العلم بالشريعة وغير متشدد في تطبيقها، يحكم بالعقل في تعاملاته ومع ذلك يراعي العرف ونظرة المجتمع وأهميتها، وكان يرشدنا في أي أمر يستجد ( غير مخالف للشريعة بالطبع )، إلى عدم البدء بتطبيقه أو استخدامه علناً بين الناس حتى يعتاد عليه، ليس تحريماً له لكنه احتراما لرأي المجتمع، ورغبة في عدم الخروج عن العرف .
فقبل أكثر من خمسين عاماً اقتني والدي جهاز راديو ليسمع به أخبار العالم من خلال إذاعة لندن، في وقت كان امتلاك جهاز راديو فيه تعتبر شياً مستنكراُ ومستهجناً في منطقة نجد ن فكان يخفيه عن أعين الناس وقد أسماه حمد، تمويهاً في حال يسأل أحد أخي الأكبر، وكان عمره أنذال عمر لا يعتدي السنوات الخمس، عن والدي فيقول أنه مع حمد أو يستمع إلى حمد . ومع مرور الوقت أصبح الراديو شيئاً مألوف يقتنيه أكثر الناس تديناً بعد أن كاد يوصف من يقتنيه بالفاسق، عندما ظهر التلفزيون في المدينة المنورة في أواخر الثمانينيات الهجرية، أخفاه حتى أعتاد الناس عليه .
هواياته وعادته :
من عادت والدي التي أثرت علينا جميعا، هي حرصه علي الطعام الصحي فكلمات والدي ترن في أذني، وهو يوجه والدتي بضرورة إزالة الشحم عن الحم قبل طبخة، وتقليل الملح والسكر، وشرب كأس لبن قبل النوم، ويدعونا إلى أكل التمر بدل الحلوى ونحن صغار، ولم نع أهمية ذلك إلا بعد أن كبرنا وأصبحنا جميعنا نطبق العادات الصحية في بيوتنا .
علي الرغم من مشاغل والدي وأسفاره المستمرة إلا أن تنظم ووقته ساعده علي ممارسة الكثير من هواياته، لا أتحدث عن القراءة، فالقراءة بالنسبة لوالدي ليست هواية تمارس في أوقات الفراغ فحسب، بل هي أسلوب حياة، فهو يكتب ويقرأ معظم وقته، لكنني أتحدث عن هويات أخري لا يعلم الناس عنها، من بينها الصيد، فهو صياد ماهر للطيور، فعندما يمتلئ وادي العاقول بالماء في المدنية المنورة، نري بواكير أسراب الطيور المهاجرة فجرا أثناء نومنا في سطح المنزل، يبتهج والدي بقرب ممارسة هوايتة، وتبدأ رحلات الصيد اليومية، حيث يرتاح نصف ساعة بعد خروجه من عملة في الجامعة الإسلامية وتناولنا طعام الغداء، ونتوجه إلى وادي العاقول، وهناك نتتبع الطيور يسوق والدي السيارة، وأخي خالد يسبر الطيور ويخبره عن مكانها فهو الأمهر في ذلك ويتابعانها معاً ثم يترجل والدي بخفة ويصوب بندقيته الشوزن إليها ونادرا ما يخطئ الهدف، كنا نعود بأصناف منوعة منها، مثل البط والغرانيق ( مالك الحزين) والقميري وهو طائر بحجم الحمام والخواضير وغيرها كثير، ويأتي دور والدتي بعد ذلك نساعدها فيه بنتف الطيور وطبخ بعضها للعشاء ويتلذذ والدي بطعمها ويدعونا لأكلها مرغبا بقوله ( حدر ) بمعني أنها طازجة من الطيور المهاجرة التي صيدت اليوم .
وتعلم اللغات من الهوايات أو المكالمات التي تميز والدي حفظه الله، فقد علم والدي نفسه اللغة الانجليزية بنفس، تذكر والدتي أنه يقرأ علي ضوء السراج في سطح المنزل ويردد الحروف الإنجليزية، ويكتب الكلمات في دفاتر من عشرين ورقة، لا تثنية قلة الإمكانات أو عدم وجود من يعلمه عن رغبته في التعلم، وكأنه كان يعد نفسه لمرحلة قادمة من حياته، يطوف فيها العالم ويتحاور مع معظم من يلقاه ليكتب كتبا عن جميع دول العالم، كما علم نفسه الإسبانية والسواحيلية، وقد أعطته إجادته للغة الإنجليزية فرصة لتحقيق رغبته في التوصل مع طلبة الجامعة ومع الجمعيات والمنظمات الإسلامية في أنحاء العالم .
ومن هواياته أيضاُ السباحة، فهو سباح ماهر .
ويهوي الاهتمام بالنخيل، ويعرف جميع أسمائها وصفاتها ويحدثنا دوما عن مزاياها، حتى أنه كان يعطي كل واحد منا نخلة عند ذهابنا إلى مزرعتنا في بريده، ويسميها باسمة، ويسأله عنها، ولا غرو أن كتب معجماً عن النخلة .
أما السفر فمن هواياته التي يسرها الله له، فقد كان عمله في مجال الدعوة الإسلامية، في المناصب المختلفة التي تقلدها سببا لزيارته إلى جميع دول العالم، ولم تقتصر زيارته علي تفقد أحوال المسلمين ورفع احتياجاتهم للحكومة ومتابعة تنفيذ ما يحتاجونه من مشاريع فحسب، بل كان يسأل عن كل شي فيها عن سبب تسمية تلك البلاد ونسبة المسلمين فيها وعادات أبنائهم التي يلاحظها ومستوي تعليمهم ومنتجاتهم وغيره، يدون ذلك يوماً بعد انتهاء العمل حيث يجلس مرافقوه لتناول الشاي أو الحديث وهو في الفندق يكتب مشاهداته ويحفظ معها ما أستطاع الحصول عليه من وثائق، حتى إذا عاد إلى المملكة نسقها وأضاف إليها معلومات من مراجع أخرى، ولا يتركها إلا بعد أن تكون مخطوطة جاهزة للطباعة .
البيئة أم الوراثة :
لعلكم إخوتي وأخواتي تتساءلون، كيف استطاع والدي أن يعطي كل هذه الاهتمامات حقها من الجهد والوقت ؟ هل للوراثة دور ساعدت البيئة علي إبرازه أم أن الإصرار والمثابرة في طلب العلم والقدرة الفائقة علي استثمار الوقت وراء ذلك؟؟
قبل حوالي ستين عاماً، لم تكن الكهرباء موجودة في مدينة بريدة وكان السعيد من يملك سراجاً، لم تكن أسرتي استثناء .تذكر والدتي شغف والدي بالقراءة والتدوين من بداية زواجهما، وكيف كانت تصنع له الشاي بعد صلاة العشاء وتحضره له وهو يكتب علي ضوء السراج في سطح منزلهم الطيني في بريدة قبل الكهرباء ويبرد الشاي وهو منشغل عنه فتنزل لتسخينه في الظلام عدة مرات.
وكيف يكون نائماً في فراشة أو يستعد للنوم فيذكر أمراً متعلقاً بتأليفه فيقفز من فراشة لتدوينه، ولا ينتظر حتى الصباح، فوالدي حفظه الله عالي المهمة لا يثنيه كسل ولا انشغال عن القراءة والكتابة . أو إنجاز أمر من أموره . أعتقد أن العوامل السابقة جميعاً مع توفيق الله تعالي تضافرت لتساعد والدي لتحقيق ما أنجز .
وللوراثة دورها فقد كان جدي ناصر العبودي وهو رجل أمي قاصاً من الدرجة الأولي ( كما ذكر والدي ) يحفظ الكثير من القصص والروايات ويريها بطريقة مبهرة، وقد تكون طريقة والدي المشوقة واسترساله في رواية مشاهداته وانطباعاته ورثها عن والده، وجد والدي عبد الرحمن العبودي شاعر عامي أورد له والدي أبيات عديدة كشواهد في كتابة \”كلمات قضت \” وفي كتب أخري .
كما أن خال أبي هو جد لوالدتي عبد الله ابن موسي الغيب من بيت علم وأدب، فقد كان يشرع بأنه يومياً بعد صلاة المغرب لمن شاء الله أن يستمع إلى شيخ يستضيفه في منزله، وبعد صلاة العشاء يجمع أهل بيته من النساء والأطفال ويقص عليهم خلاصة ما حدث الشيخ به، كان ذلك قبل أكثر من سبعين عاماً . وفي هذه العائلة نشأت جدتي لأبي وهي قارئة نهمة حتى بعد أن أصبحت عجوزاً وقد انطبعت صورتها في مخيلتي وهي تجلس القرفصاء في سطح المنزل أو في فنائه تقرا كتاباً وقد قربته من عينها لتستطيع القراءة، وهو أمر نادر الحدوث لامرأة في نجد وفي مثل سنها .
حفظ الله والدي وجزاه عنا خير الجزاء فهو نعم المربي وحفظ والدتي نبع الحنان الذي لا ينضب وفيض العطاء الذي لا ينتظر مقابلاً، المشرفة المباشرة علي تربيتنا والتي عايشت بمشاعرها جميع مراحل دراستنا وكانت نعم العون لوالدي فلولا ثقته بأننا في أيد أمينه لما أرتاح باله ولما أستطاع أنجاز ما أنجزه في خدمة الإسلام والمسلمين .
وأخيراً أجزم أن الكثير منكم وأنا أتحدث عن والدي قد طاف خيالها صور جميلة لجيل من الآباء والأجداد الذين استطاعوا بعزيمتهم القوية أن يتجاوزوا صعاب الحياة وأن يضعوا لأنفسهم مكانه في المجتمع، وعندما يحدثوننا عن ذكرياتهم اليوم بعد أن عشنا هذا الرخاء يبدو ما يقولون وكأنه قصص من الخيال فعلينا أ، نحرص علي نقل تجاربهم وحكايتهم لأبنائنا فمثل هذه القصص الواقعية عن حياتهم ستترك أثرا تربوياً كبيراً في نفوس أبنائنا.
أشكر لكم استماعكم وأرجو أن يكون فيما قدمت فائدة لكم وألا تكون عاطفتي تجاه أبي قد أخذت من وقتكم أكثر مما يجب .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى